ونحن نقترب من نهاية الشهر الكريم، شهر الصوم والعبادة من أجل تطهير وطهارة النفس والجسد معاً، كي نستقبل السنة ما بعد هذا الشهر  كما استقبلناه وتصرّفنا به خلال أيّامه الكريمة، علينا تذكير العاقل قبل الجاهل بأهميّة العمل من أجل إدخال الفرحة إلى قلوب الغير. لهذا إخترتُ أن أذكّر الجميع من المؤمنين بالله الواحد، وخاصة المسؤولين وذوي القرارات بقصّة الفاروق العادل، الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطّاب مع المرأة العجوز الفقيرة وأطفالها الجياع.

ذكرَ عبدُ اللهِ بنُ العبّاسِ عن أبيهِ قالَ: خَرحتُ ليلةً حالكةً قاصداً دارَ أميرِ المؤمنينَ عُمرَ بنِ الخطّابِ، رَضيَ اللهُ عنهُ. فَما وَصلتُ إلى نصفِ الطريقِ إلّا ورَأيتُ شَخصاً أعرابيّاً جَذبني بثوبي وَقَالَ:" الزَمني يا عبّاسُ " فَتأمّلتُ الأعرابيَّ، فَإذا هوَ أميرُ المؤمنينَ عُمرُ وهوَ مُتنكّرُ. فَتقدّمتُ إليه وسلّمتُ عليهِ وقُلتُ لهُ: " إلى أينَ يا أميرَ المؤمنينَ"؟ قالَ:" أريدُ جولةً بينَ أحياءِ العربِ في هذا الليلِ الدامسِ". وكانتْ ليلةَ قَرٍّ.                        

فتبعتهُ فسارَ وأنا وراءَهُ، وجعلَ يجولُ بينَ خيامِ الأعرابِ وبيوتهِم ويتأملُها، إلى أنْ أتينا على جميعِها وأوشكنا أنْ تخرجَ منها، فنَظرنا وإذا هناكَ خيمةٌ وفيها امرأةٌ عجوزٌ، وحَولَها صِبيةٌ يُعْوِلونَ علَيها ويَبكونَ، وأمامَها أثافيُّ عليها قِدرٌ وَتَحتَها النارَ تشتعلُ، وهيَ تقولُ للصِبيةِ:" رُويداً رُويداً بنيَّ، قليلاً ويَنضجُ الطعامُ فَتأكلونَ". فَوَقَفنا بعيداً مِنْ هناكَ، وجَعلَ عمرُ يَتأمَّلُ العجوزَ تارةً ويَنظرُ إلى الأولادِ أخرى. فطالَ الوقوفُ، فَقُلتُ لهُ:" يا أميرَ المؤمنينَ، ما الذي يُوقِفُكَ؟ سِر بِنا". فقالَ:" واللهِ لا أبرَحُ حتّى أراها قدْ صَبَّتْ للصِبيةِ فأكلوا واكتفوا ": فوَقَفنا وقدْ طالَ وُقوفنا جدّاً وَمَلِلنا المكانَ خوفاً منْ أنْ تَستريبَ بنا العُيونُ، والصِبيةُ لا يزالونَ يصرُخونَ ويَبكونَ والعجوزُ تقولُ لهُمْ مقالَتَها:" رُويداً رُويداً بنيَّ! قليلاً وينضجُ الطعامُ فَتأكلونَ". فقالَ عُمرُ:" ادخُل بِنا عِندَها لِنَسأَلَها ".                           

فَدَخلَ وَدَخلتُ وراءَهُ. فقالَ لَها عُمرُ:" السلامُ عَلَيكِ يا خالةُ ". فَرَدَّتْ عليهِ السلامَ أحسنَ ردٍّ. فقالَ لَها:" ما بالُ هؤلاءِ الصبيةِ يتصارخونَ ويبكونَ؟" فقالتْ لهُ :" لِما هُمْ فيهِ منَ الجوعِ". فقالَ لها:" وَلِمَ لمْ تُطعميهِمْ مِمَّا في القِدرِ؟" فقالتْ لهُ:" وماذا في القدرِ لِأطعمهمْ! ليسَ هوَ إلّا عُلالةٌ فقطْ إلى أنْ يَضجروا من العويلِ فيَغلبُهُمُ النومُ، وليسَ لي شيءٌ لِأطعمهمْ". فتقدَّمَ عُمرُ إلى القدرِ ونَظرها، فإذا فيها حَصباءُ وعليها الماءُ يَغلي. فتَعجَّبَ منْ ذلكَ وقالَ لها:" ما المُرادُ بذلكَ؟" فقالت:" أوهمُهُمْ أنَّ فيها شيئاً يُطبَخُ فيُؤكَلُ، فَأعَلِّلُهُمْ بهِ حتّى إذا ضجروا وغَلبَ النومُ عيونَهُمْ ناموا".فقالَ لها عُمرُ:" ولماذا أنتِ هكذا؟" فقالَتْ لهُ:" أنا مقطوعة لا أخٌ لي ولا أبٌ ولا زوجٌ ولا قرابةٌ". فقالَ لها:" لِمَ لمْ تَعرضي أمرَكِ على أميرِ المؤمنينَ عُمرَ بْنِ الخَطّابِ، فيَجعلَ لكِ شيئاً من بيتِ المالِ؟" فقالَتْ:" لا حَيَّأ اللهُ عُمرَ ونَكَّسَ اللهُ أعلامَهُ! فإنَّهُ قد ظَلمَني".                                                  

فلمَّا سمعَ عُمرُ مَقالَتَها ارتاعَ مِنْ ذلكَ وقالَ لَها:" يا خالةُ بماذا ظَلمَكِ عُمرُ بنُ الخطابِ؟" قالَتْ لهُ:" نَعَمْ واللهِ ظَلَمَنا! إنَّ الراعي عليهِ أنْ يُفتِّشَ عن حالِ كُلٍّ من رَعيَّتِهِ، لَعلَّهُ يوجدُ فيها مَنْ هو مِثلي ضَيِّقُ اليَدِ كثيرُ الصِبيةِ ولا مُعينَ ولا مُساعدَ لهُ، فَيتوَلّى لَوازمَهُ ويَسمحَ لهُ من بيتِ المالِ بما يقوتُهُ وعِيالَهُ وصِبيتَهُ". فقالَ لها عُمرُ:" وَمِنْ أينَ يعلمُ عُمرُ بحالِكِ، وما أنتِ بهِ مِنَ الفاقةِ معَ كثرةِ الصِبيةِ؟ كانَ يجبُ عليكِ أنْ تَتقدّمي وتُعلميهِ بأمرِكِ". فقالتْ:" لا لا، إنَّ الراعيَ الحُرَّ يجبُ عليهِ أنْ يُفتِّشَ عنِ احتياجاتِ رَعيَّتهِ، خُصوصاً وَعُموماً، فَلَعَلَّ ذلكَ الفقيرَ الحالِ الضيِّقَ اليدِ غلبَهُ حياؤهُ ومنعَهُ مِنَ التقدّمِ إلى رَاعيهِ ليُعلمَهُ بِحالِهِ. فَعَلى عُمرَ السُؤالُ عنْ حالِ الفقراءِ في رعيّتهِ أكثرَ مِنْ تقدُّمِ الفقيرِ إلى مولاهُ لإعلامهِ بحالهِ. والراعي الحُرُّ إذا أهملَ ذلكَ فيكونُ هذا ظُلماً منهُ. وهذهِ سُنَّةُ اللهِ، وَمَنْ تَعَدّاها فقدْ ظلمَ". فعندَ ذلكَ قالَ لها عُمرُ :" صَدَقتِ يا خالةُ، ولكنْ عَلِّلي الصِبيةَ والساعةَ آتيكِ".                        

ثمَّ خرجَ وخرجتُ معهُ، وكانَ قد بقيَ منَ الليلِ ثُلثُهُ الأخيرُ. فمَشينا، والكلابُ تنبحُنا وأنا أطردُها وأذُبُّها عنّي وعنهُ، إلى أنِ انتهيْنا إلى بيتِ الذَّخيرةِ، ففَتحَهُ وحدَهُ ودخلَ، وأمرَني فدَخلتُ معهُ. فنَظرَ يميناً وشمالاً، فعَمدَ إلى كيسٍ منَ الدَّقيقِ يحتوي على مائةِ رطلٍ وَيُنيفُ. فقالَ لي:" يا عبّاسُ جَمِّلْهُ على كتفي".فحمَّلتهُ إيّاهُ. ثمّ قالَ لي:" احمِلْ أنتَ هاتيكَ جرَّةَ السمنِ". وأشارَ لي إلى جرَّةٍ هناكَ، فحَملتُها وخَرجنا وأقفلَ البابَ، وسِرنا وقد انهارَ من الدقيقِ على لحيتهِ وعينيْهِ وجبينهِ. فمَشينا إلى أنْ أنْصَفْنا، وقد أتعَبَهُ الحملُ لأنَّ المكانَ كانَ بعيدَ المسافةِ. فعَرضتُ نفسي عليهِ وقُلتُ لهُ :" بأبي وأمِّي يا أميرَ المؤمنينَ، حوِّلِ الكيسَ عنكَ ودَعني أحملهُ". فقالَ:" لا، أنتَ لا تحملُ عنّي جرائمي وظُلمي يومَ الدينِ، واعلَمْ يا عبّاسُ أنَّ حَمْلَ جبالِ الحديدِ وثقلها خيرٌ منْ حَمْلِ ظُلّامهِ كبُرَتْ أو صَغُرتْ، ولا سيَّما هذهِ العجوزُ تُعَلِّلُ أولادَها بالحصى. يا لهُ من ذنبٍ عظيمٍ عندَ اللهِ! سِرْ بنا وأسرِعْ يا عبّاسُ، قبلَ أنْ تَضْجَرَ الصبيةُ مِنَ العويلِ فيناموا كما قالَتْ". فسارَ وأسرعَ وأنا معهُ، وهو يلهثُ لَهْثَ الثّورِ منَ التّعبِ، إلى أنْ وصلنا خيمةَ العجوزِ.                                              

فعندَ ذلكَ حَوَّلَ كيسَ الدقيقِ عن كتفهِ ووَضعتُ جرَّةَ السَّمنِ أمامهُ. فتَقدّمَ هو بذاتهِ وأخذَ القدرَ وكبَّ ما فيها ووضعَ السمنَ وجعلَ بجتنبهِ الدقيقَ. ثمّ نظرَ فإذا النارُ قد كادَتْ تطفأ، فقالَ للعجوزِ:" أعندَكِ حطبٌ؟" قالت :" نعم يا ابني"، وأشارَتْ لهُ إليهِ. فقامَ وجاءَ بقليلٍ منهُ، وكانَ الحطبُ أخضرَ فوضَعَ منهُ في النارِ ووضَعَ القدرَ على الأثافي، وجعلَ يُنَكِّسُ رأسَهُ إلى الأرضِ وينفخُ بفمهِ تحتَالقدرِ.فواللهِ إنِّي رأيتُ دخانَ الحطبِ يخرجُ من خلالِ لحيتهِ. وقد كنسَ بها الأرضَ إذ كانَ يُطَأطِئ رأسَهُ ليتمكّنَ منَ النَّفخِ. ولم يزَل هكذا حتّى اشتعلَتِ النارُ وذابَ السمنُ وابتدأ غليانهُ، فجعلَ يُحرِّكُ السمنَ بعودٍ في يده الواحدةِ، ويخلِطُ منَ الدقيقِ معَ السمنِ باليد الأخرى إلى أنْ أُنضِجَ، والصبيةُ حولَهُ يتصارخونَ. فلمّا طابَ الطعامُ طلبَ منَ العجوزِ إناءً فأتتهُ بهِ، فجعلَ يصبُّ الطبيخَ في الإناءِ وينفخُهُ بفمِهِ ليبرِّدَهُ ويُلقِّمُ الصغارَ. ولم يزلْ يفعلُ هكذا معهمْ واحداً بعدَ واحدٍ، حتّى أتى جميعُهمْ وشبعوا واكتفوْا وقاموا يلعبونَ ويضحكونَ بعضُهُمْ مع بعضٍ، إلى أنْ غلبَ عليهمِ النومُ فناموا. فالتفتَ عُمرُ عندَ ذلكَ إلى العجوزِ وقالَ لها:" يا خالةُ أنا منْ قرابةِ أميرِ المؤمنينَ عُمرَ وسأذكرُ لهُ حالَكِ. فائتيني غداً صباحاً في دارِ الإمارةِ فتجديني هناكَ، فارجي خيراً ".          

ثمّ ودّعَها عُمرُ وخرجَ وخرجتُ معهُ، فقالَ لي:" يا عبّاسُ، إنّي حينَ رأيتُ العجوزَ تُعَلِّلُ صِبيتها بحصًى حسستَ أنَّ الجبالَ قدْ زَلزلتْ واستقرَّتْ على ظهري، حتّى إذا جئتُ بما جِئتُ وأطعمتُهُمْ ما طَبَختُهُ لهمْ واكتفوْا وجلَسوا يلعبونَ ويضحكونَ، فحينئذٍ شَعرتُ أنّ تلكَ الجبالِ قد سَقطتْ عنْ ظهري". ثمّ أتى عُمرُ دارَهُ وأمرني فدَخلتُ      معَهُ، وبِتنا ليلَتنا.                                                                        

ولمّا كانَ الصباحُ أتتِ العجوزُ، فاستغفرَها وجعلَ لها ولِصِبيتها راتباً منْ بيتِ المالِ تَستوفيهِ شهراً فشهراً.                                                                    

أعودُ وأقولُ وأذَكّرُ كلّ أصحابِ القراراتِ منَ المسؤولينَ عنْ أبناءِ شعبِنا، الذي يُعاني الكثيرَ منَ المشاكلِ والصعوبات: لا يُحتَرمُ الإنسانُ بكرسيهِ  بلْ يُحتَرمُ الكُرسي بإنسانهِ. وفي عشيّةِ اليومِ الأخيرِ منْ شهر الصيامِ المُباركِ أتوَجَّهُ إلى جميعِ الصائمينَ وغير الصائمينَ منْ شُركائنا في هذهِ الحياةِ المُشتركةِ في بلدتي عبلين وفي الأراضي المُقدَّسَةِ وفي العالمِ بأجملِ التبريكاتِ والتمنيّاتِ داعِياً اللهَ عزّ وجلّ أن يعيدَ هذا الشهر في السنة القادمةِ والسلامُ يُرفرفُ فوقَ ربوع بلادِنا وفي العالم أجمع، وكلّ عام والعام والجميع بألف خيرٍ آمين.

          الداعي لكم بالخير

         أخوكم بالإنسانيّة  والإيمان  
 جاسر الياس داود