يوم الاثنين الموافق
06/05/2024
الصفحة الرئيسية اجعلنا صفحة البداية اضفنا للمفضلة





























16/08/2012 - 09:48:38 pm
جليليون (4) أنتَ أخي بقلم جاسر الياس داود
موقع عبلين أون لاين


وضعَ الطفلين في "الخُرج" المصنوع من الخيش، كل واحد منهما في جهة من الخُرج، بعدما طلبت منه أمّهما الإعتناء بهما وعدم غياب نظره عنهما. فقد فقدتْ زوجها في حادث غدرٍ وقتلٍ، ولا تريد أن تفقد ولديْها، لأنّهما أمانة منه وهما يُذكّرانها بالأيّام الجميلة التي قضتها مع والديْهما.  
لهذا وَضعَت القوات الإنجليزيّة أو قوّات الإحتلال البريطاني الحراسة عليها، وأوكلت لهذا الجليلي (نسبة إلى مكان سكناه وهو الجليل) ولرجل آخر من منطقة بعيدة عن مكان سكنى هذه المرأة الأرملة والدة الطفلين، بل من العربان عبر نهر الأردن.  
كان هذا الجليلي ضعيف البنية وطوله مقبول نوعاً ما لكنّه حَذِر جدّاً، لأنّ البعض من أبناء جلدته وقومه كانوا يطلبون روحه، ومن هؤلاء بعض الرجال الذين كانوا يُطلقون أو يُسمّون أنفسهم بثوّار الستّة والثلاثين (نسبة إلى ثورة 1936م)،ولكن الغاية المُبطَّنة هي إنتقام شخصيّ، لأنّهم لم ينالوا منه مبتغاهم، وهو مدَّهم بالسلاح، فقد كان يقول عنهم: هؤلاء ليسوا بثوّار صادقين بعملهم، فهم شلّة من الذين يبحثون عن الطعام والشراب لمعداتهم، ويستعملون السلاح ضدّ أبناء شعبهم إذا ما نشبت مناوشات بين بعض أبناء العائلات. لهذا عندما ضاق الخناق حول رقبته، رحل عن بلدته متحادياً إراقة وسفك الدماء الزكيّة بدون مُبرِّر، واتّخذ البلدة العربيّة القريبة من زخرون يعقوب مقرّاً له لعدّة أشهر وأكثر، وبعدها لأكثر من سنة، وكان اسم هذه البلدة زمّارين. 
سار الجليليّ ماسكاً أو مُمسكاً بالحبل المربوط حول رقبة الحمار، الذي يحمل الطفليْن بعد أن نبّه الحارس الآخر بعدم غضّ الطرف أو النظر عن البيت الذي تُقيم به الأمّ الأرملة وعن منطقته المحيطة به، وعدم النوم أو أخذ قيلولة، لأنّ الوضع الأمني آنذاك لا يُطمئن. 
سار الجليليّ يتفقّد المنطقة، منطقة المزرعة التي تركها الزوج لزوجته، يسير مسافة قصيرة ثمّ يتحدّث مع الطفليْن باللغة العربيّة، وهكذا شبّ الطفلان وهما يعرفان ويُتقنان أسس اللغة العربيّة من الحديث الذي كان يدور بينه وبينهما خلال التجوال في مزرعة العائلة. 
كانت هذه الأمّ الأرملة تطمئنّ له كثيراً، لأنّه شهمٌ وعزيز النفس وحامٍ لحرمة البيت الذي أؤتمن عليه، ولم تكن لتُعطي أبناءها أو ولديْها الطفليْن للحارس الآخر بتاتاً، لأنّها كما قالت لهذا الجليليّ : قلبي لا يطمئنّ  له وهذا شعوري كأمّ تخاف على أبنائها.  
 
بقيَ هذا الجليليّ على هذه الحالة عدّة أشهر، لا صلة بينه وبين أبناء بلدته أو أبناء عائلته الكبيرة، أمّا عائلته من الزوجة والأولاد (العائلة الصغيرة) لم تكُن لتُصرِّح عن مكان إقامته المؤقّت خوفاً عليه من الشلّة التي تريد الإنتقام منه. 
في أحد الأيّام، عاد هذا الجليليّ من جولة الحراسة وتفقّد النواحي والزوايا المختلفة بالمزرعة، وصلَ الى باب البيت وأنزل الطفليْن كعادته، ثمّ طرقَ الباب، فصاحت الأمّ الأرملة من الداخل: أترك الولدين يدخلان وابتعد أنتَ عن الباب.   
   
ذُهل الجليليّ لسماع أقوال هذه المرأة التي يقوم بحراستها، فهذه المرّة الأولى التي فيها تتحدّث معه بجفاء ونبرة تنمّ عن غضب واشمئزاز. ظنّ في البداية بأنّه تأخّر في إحضار الولديْن، ثمّ قال لنفسه: لا لم أتأخّر في إحضارهما، وتساءل لماذا تكلّمت معي بهذا الأسلوب؟!!  
  
وهو يُفكِّر بالسبب، سمع صوت إقفالٍ بالمفتاح والآمِن، فذُهل ونظر إلى البيت وإذ بالأمّ الأرملة تقف خلف الشبّاك المُحدّد بحديد قويّ خوفاً على حياتها وعلى حياة طفليْها، تحملُ بين يديها بندقيّة زوجها وتصوّبها نحو الجليليّ، شعرها غير منظّم أو مُرتّب ( مكنْفِش باللغة الشعبيّة) ومنظرها غريب ويتطاير الشرّ أو الشرار من عينيها.   
   ما لها هذه الوليّة؟! سأل نفسه هذا الجليليّ بلغته الشعبيّة، ثمّ استدار وهو غير خائف من حملها للبندقيّة، لأنّه لم يفعل شيئاً مؤذياً لها أو لولديْها الطفليْن. نظر إلى الحارس الآخر الذي كان يجلس تحت شجرة لا تبعد كثيراً عن البيت، وكانت ملامح وجهه لا تُطمئن.   
 
شعر الجليليّ بأنّ هناك شيئاً غير طبيعي حدث في غيابه عن البيت، أي في فترة الحراسة التي قام بها بمرافقة الطفليْن. لم يخطر بباله أنّ هذا الحارس الذي يعمل معه قد خان الأمانة، أو تساهل في عمل الحراسة أو ما طُلب منه كي تكون هذه الأمّ الأرملة بأمانٍ وحماية كافية تكفل حياتها وحياة طفليْها.  
 
إلتفت الجليليّ وهو يسير باتجاه رفيقه الحارس الجالس تحت الشجرة، ثمّ التفت إلى الوراء فشاهد نفس المنظر الذي شاهده قبل دقائق، ما زالت الأمّ الأرملة واقفة تحمل البندقيّة وتُصوّبها نحوهما.  
ماذا أصابَ هذه المرأة؟! أفي مثل هذا اليوم قُتل زوجها، لهذا هي في مثل هذه الحالة التي يُرثى لها؟! أم ماذا؟! كلّ هذه الأفكار بدأت تتوارد على فكره وذهنه، ولكن لا جواب لها.  
وصل إلى حيث كان رفيقه الحارس يجلس، وكان هذا قويّ البنية، طويل القامة ومكتنز اللحم. نظر الجليليّ إليه وقال لنفسه: ربّما هو السبب؟!! فهذه الأمّ الأرملة فتيّة وجميلة، بيضاء البشرة، طويلة القامة وجميلة القدّ. إستمرّ بالتفكير والتخمين وتساءل: ربّما الشيطان أغراه لهذا الحارس رفيقي؟! لا لا لا، لا يمكن أن يحدث هذا.  
  
أحدق الجليليّ نظره بوجه رفيقه الحارس، فلمح في وجهه شيئاً من الغضب وهو ينظر إلى الشبّاك الذي تقف من خلفه الأمّ الأرملة. فقال الجليليّ بقرارة نفسه: لنسأله ولكن بطريقة السؤال غير المباشر، ثمّ قال: شو يا رفيقي ، شو رايك بهاي الحلوة؟ والله إحنا تاركين نسوانّا وجايين نحرسها هاي الشلبيّة ببلاش، يلّا نجرّب معها!!  نهض الحارس منذهلاً وقال: شو بتحكي يا جليلي؟!! والله هاي بتسوى مية زلمي. سأله الجليليّ: كيف بتعرف هذا الإشي؟      إعترف الحارس للجليليّ بأنّه حاول وهو غائب ( أي الجليليّ) ويقوم في دوريته بحراسة المزرعة وتفقّدها، حاول أن يجتمع بها فرفضتْ، ولكني حاولتُ وقامتْ بضربي، وحدث عراك بيننا، إنتهى بأن قامتْ بضربي ضربة قويّة بين رجليّ برِجلِها وهي في حالة غضب وثوران، فخرجتُ من البيت وأنا أتألّم، وجلستُ هنا لبضع دقائق حتّى خفَّ الألم ، ألم الضربة. ما كنت أفكّر هيك هي، والله عشرة رجال ما بغدرولها. 
  جُنّ جنون هذا الجليليّ، ولكنّه كبتَ غضبه داخلاً، فهو لا يقدر أن يُواجه رفيقه الحارس وجهاً لوجه، ولا يريد أن يرتكب جريمة بسبب عمله مع الأمّ الأرملة. لم يلعب عنده دور القوميّة أو الطائفيّة، فهذه المرأة يهوديّة وهو فلسطيني من الجليل إئتمنته شخصيّاً على نفسها وعلى ولديها، أمّا الحارس الآخر فقد أحضرَتْهُ القوة الإنجليزيّة من منطقة غير معروفة لهذا الجليليّ، فلغته ولهجة كلامه تختلف عن لغة ولهجة الجليليّ.  
   أخذ الجليليّ التفكير بحيلةٍ للإمساك برفيقه الحارس القويّ البنية، وفي نفس الوقت لا يستطيع التوجّه إلى بيت الأمّ الأرملة لطلب نجدة من القوات الإنجليزيّة لاعتقال هذا الحارس بسبب خيانته الأمانة، فالأمّ الأرملة لا تأمَن جانبها منهما الإثنين، وهذا ما كان يُؤلم الجليليّ، فهو لم يَخُن الأمانة !! أمّا الأمّ الأرملة فما زالت على نفس الحالة غاضبة وتحمل البندقيّة بيديها وواقفة خلف الشبّاك تنظر إليهما وشرار الغضب يتطاير من عينيها.   
 
خطرَت على بال الجليليّ فكرة، بأن يصيح : شو هذا؟ بعدها ينظر إلى جهة الحارس الجالس على أو عن يساره. صاح الجليليّ، عندها إلتفتَ الحارس إلى جهة اليسار، فأصبح ظهره تجاه الجليليّ، فقام هذا الجليليّ وقفز كالنمر وضربَه " بكعب" البندقيّة، بعدها وقع هذا الحارس أرضاً ومغماً عليه، ثمّ قام الجليليّ بربطه بالحبال التي بحوزته، والأمّ الأرملة واقفة بالقرب من الشبّاك وتشاهد كلّ ما يحدث بين هذيْن الحارسيْن. بعد تكبيله بالحبال ، تقدّم هذا الجليليّ وهو يحمل بندقيته بيديه رافعاً إيّاها إلى أعلى، ولمّا إقترب من الشبّاك رماها من بين يديه، ورفع يديْه كأنّه أسير حربٍ، ثمّ ضرب بأصبعه على زجاج الشبّاك، وأشار لها بأن تتصل بالشرطة أو بالجيش الإنجليزي.  
 
إرتاحَتْ قليلاً وذهب الغضب من ملامح وجهها، لأنّها عرَفَت بأنّ هذا الجليليّ يختلف بأخلاقه عن ذاك الحارس. ثمّ فعَلَت ما طلب منها الجليليّ بالإشارة، وقامت بالإتصال بالشرطة، فحضرت دورية من العسكر الإنجليزي كما كان يقول الجليليّ بلغته الشعبيّة، فرأوْا المشهد واستفسروا منه، فقال: سلوها (إسألوها) هي بِتْقُلْكُم على كل إشي.    
 سَرَدَت الأمّ الأرملة القصّة وما حدث بينها وبين الحارس الآخر، عندها طرح عليها الضابط الإنجليزي إقتراحه بتبديل أو باستبدال الحرس الخاص ببيتها، فصاحت: لا، هذا (أي الجليليّ) هو الوحيد الذي سيقوم بحراستي وحراسة ولديَّ. ثمّ توجَّهَت نحو المطبخ وأحضرَت سكيناً صغيراً، وجَرَحَت كفّ يدها (كما سردها الجليليّ للقصّة وهي أكّدتها لأبنائه ولمعارفها فيما بعد، وانتشرَت بين أبناء بلدته) وطلبت من الجليليّ أن يقوم بفعل ما فَعَلَتْهُ، والعسكر الإنجليزي لا يدرون ما تفعله هذه الأمّ الأرملة !! لكن الجليليّ كان يعرف ما مغزى هذا العمل وما الهدف منه. 
 
فَعَل الجليليّ ما طلبت منه، فخرج اتلدم من كفّ يده، ثمّ مدّت يدها النازفة باتجاه الجليليّ الذي مدّ يده النازفة أيضاً، وكأنّهما يُسلّمان على بعضهما البعض والدم ينزف من كلتا اليدين، وقالت له: منذ الآن أنتَ أخي أمام الله وأمام هؤلاء وأمام أنفسنا والجميع، بالرّغم من أنني لستُ عربيّة مثلكَ، ولكن الدين والقوميّة لا تمنع الأخوّة الصادقة بين بني البشر.   
   منذ ذلك اليوم إتّخذها هذا الجليليّ أختاً له، فاعتنى بولديها حتّى كبرا، وكانا يقومان بزيارة خالهما في بلدته الجليليّة ، وكان هذان الشابان يتكلمان اللغة العربيّة بطلاقة وذلك بفضل تعليم الجليليّ لهما وهما صغار، وكانا يطرحان عليه السلام بقولهما: السلام عليك يا خالنا. ومنذ ذلك الوقت عرفت المنطقة المحيطة ببلدة الجليليّ هذه القصّة.   
  
لم يبقَ هذا سرّاً، بل قام الأبناء الذين أصبحوا مع مرور الزمن آباء، بقصّ القصة هذه لأبنائهما وما حدث بين جدّتهم الأرملة والحارس الجليليّ، وهكذا استمرّ الأحفاد بالقول: لنا أخوال في البلدة الجليليّة كذا.   
 
إذاً الإنسانيّة الحقيقيّة تكسر جميع الحواجز والموانع، وتصنع السلام وتُدخل الطمأنينة لقلوب بني البشر إذا تحلوا بها حقيقة. هذا ما علّمنا به هذا الجليليّ رحمه الله وطيّب ثراه.                                               

                                                               عبلين 14/8/2012م


تعليقات        (اضف تعليق)

* الاسم الكامل
البريد الالكتروني
الحماية
* كود الحماية
البلد
هام جدا ادارة الموقع تحتفظ لنفسها الحق لالغاء التعليق او حذف بعض الكلمات منه في حال كانت المشاركة غير اخلاقية ولا تتماشى مع شروط الاستعمال. نرجو منكم الحفاظ على مستوى مشاركة رفيع.
مسؤولية التعقيب تقع على عاتق المعقبين انفسهم فقط
يمنع ادخال اي مضامين فيها اي تجاوز على قانون منع القذف والتشهير او اي قانون آخر
فيديو عبلين |  اخبار عبلين |  دليل عبلين |  عن عبلين |  العاب اونلاين |  للنشر والاعلان |  من نحن |  اتصل بنا | 
Online Users
Copyright © ibillin.com 2007-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع عبلين اون لاين
Developed & Designed by Sigma-Space.com | Hosting by Sigma-Hosting.com