يصدر قريبا عن «المؤسسة العربية للأبحاث والنشر» كتاب «بئر الحداثة» لمؤلفه د. سمير الحاج. ويسعى الكتاب إلى كشف واستقراء تجليات الحداثة الغربية والرموز المسيحية في الأعمال القصصية والروائية لجبرا إبراهيم جبرا، من خلال تتبع ودراسة تأثره بالأدب الغربي خاصة الإنجليزي، خلال دراسته الثانوية في الكلية العربية في القدس، وترجماته لـ26 عملا أدبيا غربيا في الرواية والمسرحية والقصة والنقد. وهنا مقتطفات محررة من المقدمة:

تُعتبر الحداثة modernism في أعمال جبرا إبراهيم جبرا موضوعا جادا وجديرا بالبحث. والحداثة تنطوي على الهدم ثم البناء، أي هدم الموروث الثابت وبناء الجديد المتحول. أما الحداثة في الأدب فهي تلك الأشكال والقوالب الأدبية الجديدة التي عرفها الأدب الغربي بعد الحرب العالمية الأولى، وكانت محصلة الخيبة والإحباط من الأفكار والنظريات الاجتماعية والسياسية التي سادت قبل الحرب، وأدت إلى القتل والدمار. ومن أبرز رموزها في الشعر، عزرا باوند Ezra Pound من مؤسسي الشعر الحر المتحرر من الوزن والقافية، وت. س. إليوت T.S.Eliot مؤلف القصيدة المطولة (1922) The Waste Land التي ترجمها إلى العربية الدكتور عبد الواحد لؤلؤة تحت عنوان «الأرض اليباب» (1980). وفي النثر، جيمس جويس، أحد مؤسسي تيار الوعي stream of consciousness ومؤلف «يولسيس» (عوليس) (1922) Ulysses ووليم فوكنر William Faulkner مؤلف الصخب والعنف (1929) The Sound and the Fury.

تأثر الأدب العربي الحديث بالحداثة الغربية، في أواخر النصف الأول من القرن العشرين، فظهر ما دُعِي باسم حركة الشعر الحر في العراق ممثلة ببدر شاكر السياب ونازك الملائكة، وجماعة مجلة شعر في لبنان، التي عنيت بالتحديث عن طريق كتابة ونشر قصيدة النثر والشعر الحر، وترجمة الأشعار الأجنبية، وقد ضمت هذه المجلة شعراء لبنانيين وسوريين أبرزهم يوسف الخال وعلي أحمد سعيد أسبر الملقب بأدونيس وخليل حاوي وأنسي الحاج وفؤاد رفقة وشوقي أبي شقرا. واتهم هؤلاء الشعراء، من جانب بعض النقاد في العالم العربي، بهدم التراث العربي وتهميش اللغة الفصحى، وتبني الثقافة الغربية.

تشكل أعمال جبرا الروائية والقصصية نموذجا لتجليات الحداثة الغربية والرموز المسيحية، فقد نجحت في الإفادة من التقنيات الحديثة للرواية الغربية، وتكسير التابوهات والمسلمات الفنية وفي الوقت نفسه حافظت على خصوصيتها العربية والفلسطينية.

من خلال ظاهرتي التناص intertextuality والتهجين hybridisation، تعالقت نصوصه مع نصوص غربية، وتلقحت منها على المستويين الدلالي والشكلي، مما ساهم في إثرائها وصبغها بالعولمة globalization، كما اتسعت لمجالات معرفية شتى منها علوم النفس والاجتماع والفلسفة والأديان والأساطير والموسيقى والمسرح والسينما والنحت والرسم، وتداخلت وانصهرت فيها الأجناس الأدبية genres من شعر ومسرحية وقصة ورواية، ضمن ما اصطلح عليه بالكتابة عبر النوعية trans generic writing.

تعتبر الرواية فنا غربيا، وإن كان الباحثون العرب يختلفون في هذا الاستنتاج، فالباحث العراقي محسن جاسم الموسوي (الموسوي 1988) يرى أن الرواية الأوروبية، قد تأثرت بالموروث الأدبي العربي، عن طريق ترجمة المقامات في بداية القرن الثامن عشر، وعن طريق قصص «ألف ليلة وليلة»، بينما يرى الباحث محمد يوسف نجم (نجم 1952)، أن العرب لم يعرفوا القصة، ووصلت إليهم من الغرب، عن طريق الترجمة.

ويمكن القول إن حملة نابليون بونابرت Napoleone Buonaparte على مصر عام 1798، وتأسيس الدولة المصرية الحديثة على يد محمد علي باشا، في الفترة بين 1805 - 1848، كان لها نتائج ثقافية على مصر، أهمها الانفتاح على حضارة الغرب، والنهوض بالتعليم عن طريق تأسيس مدارس حديثة، ومطابع وصحف، وإرسال بعثات مصرية طلابية إلى أوروبا، للاستفادة من العلوم المتطورة.

وفي القرن الثامن عشر، بدأ نشاط البعثات التبشيرية المسيحية، يؤسس المدارس والمستشفيات والمطابع وغيرها من المراكز الثقافية، في كل من لبنان وسوريا وفلسطين ومصر. وهذه المؤسسات التعليمية والاجتماعية والثقافية، التي أقامتها البعثات التبشيرية، بهدف نشر الدين المسيحي، وحماية أبناء الطوائف المسيحية داخل الدولة العثمانية، كان لها دور بارز ومهم في إحداث نهضة فكرية وعلمية، في وقت كانت البلاد العربية تعيش فيه حياة جهل وتخلف تحت الحكم العثماني. وفي فترة الانتداب البريطاني على فلسطين 1918 - 1948، أقامت حكومة الانتداب البريطاني في القدس، مدرسة ثانوية عربية انتقائية تدعى الكلية العربية في القدس، اختارت فيها أوائل الطلاب الذكور المتفوقين، من جميع القرى والمدن العربية في فلسطين، بإشراف دائرة معارف بريطانية، لتنشئة جيل مشبع بالثقافة الإنجليزية، يساعدها في إشغال وظائف إدارية وتعليمية وفق سياسة مرسومة مسبقا.

إن التحاق جبرا إبان دراسته الثانوية بالكلية العربية في القدس ودراسته لكبار الأدباء والشعراء الإنجليز، والمذاهب والتيارات الفكرية التي يمثلونها، حيث إن منهاجها التعليمي كان يكثف تدريس اللغة والأدب الإنجليزي وبالذات مسرحيات شكسبير، شكل حجر الأساس في اطلاعه على الأدب الإنجليزي لكل مراحله. كما استمر تواصله مع الأدب الإنجليزي، بعد تخرجه في الكلية، إذ أرسل عام 1939، في بعثة تعليمية، من قِبل دائرة المعارف البريطانية، إلى بريطانيا، وهناك درس الأدب الإنجليزي، ونال فيه شهادة الماجستير، في فترة كانت فيها بريطانيا تعيش قمة الحداثة الغربية.

هذا المهاد الثقافي لجبرا ساهم في تعرفه إلى الأدب الإنجليزي ودراسته له بعمق، وقد نجح في كتابة أشعار وأعمال روائية باللغة الإنجليزية منها رواية (1946) Passage in the Silent Night التي أعاد كتابتها بالعربية ببغداد بعنوان «صراخ في ليل طويل» ورواية (1960) Hunters in a Narrow Street التي تُرجمت إلى العربية بعنوان «صيادون في شارع ضيق».

وبرزت الحداثة الغربية في مشروع جبرا الترجمي النهضوي، إذ ترجم ستة وعشرين كتابا عرف فيها بأبرز الكتاب الغربيين ومدارسهم الأدبية والفكرية الحديثة، وأثرت ترجماته، والمقدمات والدراسات التي وضعها لها، في تطوير الأدب العربي الحديث، خاصة الشعر والرواية تقنية وموضوعا.

وساهمت في إدخال المؤثرات الفوكنرية والسارترية والكاموية، على الرواية العربية الحديثة، وهي تنضوي تحت راية التنوير والتثقيف، كما شكلت وتشكل رافعة مهمة للأدب العربي الحديث، إضافة إلى كونها مرجعا أساسيا ومهما للبحث والدراسة.

جبرا إبراهيم جبرا



نقلا عن الشرق الاوسط