يوم الاثنين الموافق
29/04/2024
الصفحة الرئيسية اجعلنا صفحة البداية اضفنا للمفضلة





























2010-12-11 20:45:21
جُـودًا وُجـودُك كـان بقلم حـنـّا نـور الـحـاجّ
جُـودًا وُجـودُك كـان بقلم حـنـّا نـور الـحـاجّ
(كـلام فـي غـيـابٍ مـتـوهَّـمٍ لأخـي "تـوفـيـق")
[في ما يلي كلامٌ متباعد متقارب، مفتَّت مجمَّع، منفصل متّصل. ما يجمع بين أقسامه أنّها كُتِبت في أعقاب رحيل صهرنا وابن خالي الغالي تـوفـيـق جـمـيـل غـبـريـس -"أبـو جـمـيـل" (5/3/1957 - 28/10/2010). كانت بداية كتابتها بعد رحيله ببضعة أيّام، وختامها في اليوم الأربعين بعد رحيله. الكثير ممّا يأتي أثبتناه في الكتيّب الذي صدر في ذكرى الأربعين، الكتيّب الذي أسميناه "حين تجود الحياة... أبو جميل..."]
 
المرحوم توفيق جميل غبريس (أبو جميل)
على مسمع منّي، بعد يوم أو اثنين من تشييع جثمانك الطاهر، قال أحد المعَزّين الأصحاب إنّه أحسّ خلال التشييع أنّ الكثيرين من المشيِّعين الكثيرين لم يأتوا من باب أنّ هذه مجرّد جنازة وأنّهم يقومون بمجرّد واجب؛ بل أتـَوْا مِن قَبيل تقديم التكريم لرجل كريم.
لن ينسى أهل عـبـلّـيـن... لن ينسَوْا تاجرًا عـبـلّـيـنيًّا أخلاقُهُ لم تكن أخلاقًا تجاريّة، اسمه تـوفـيـق جـمـيـل غـبـريـس.
لن ينسَوْا تاجرًا سخيًّا جادَ عليهم وخَدَمَهم، فكسب منهم ممّا في القلوب أكثر ممّا في الجيوب وأثمن بما لا يُقاس. كسب الحبَّ والتقديرَ وحسْنَ الثناء. ولن يُنسى أنّه بمقدار ما جادَ هذا الرجل على الناس، جاد عليه الباري بالرزق الحلال الوفير. كان على يقين أنّ رضا الخالق مِن رضا الخَلْق. آمنَ أبو الجـمـيـل أنّ الجميل ينبغي أن يُغرَس أينما كان، ولذا نشط وعمل في كثير من الأطُر الاجتماعيّة المحلّـيّة في البلدة، فجاد عليها بماله وجهده ووقته واهتمامه.
كيف ينسى مَن قصدوك في مآتمهم لاستئجار الكراسيّ والطاولات ولابتياع البُنّ وعلب التبغ وغيرها، كيف يَنْسَوْن، يا تـوفـيـق، أنّك لم تكن تَقبل أن تتلقّى قرشًا منهم؟! كيف ينسى مَن قصدوك في مناسبات الأفراح أنّك كنتَ تُسْدي إليهم النصائح والتوجيهات، حريصًا على جيوبهم تدبيرًا وتوفـيرًا، مخترِقًا لقلوبهم حبًّا وتوقـيرًا، يا صاحب الفم الذهب والفؤاد الذهب؟! أسيَنْسَون كيف كنتَ دومًا تَحسم مبلغًا من مستحقّاتك عليهم ليس بالبخس (حسمًا حقيقيًّا لا تظاهريًّا)، معتبِرًا إيّاه تقدمةً أو مبارَكةً منك لأصحاب الفرح؟! أيُنسى ما لا يَنساه الكِـرام ويتناساه اللـئام؟!
بِسيرته العطرة المعطاءة، أكّد أبو الجميل -كما أكّدت قبله الراحلةُ المضحّيةُ أمّ صالح (روزيت وديع شوملي-سمرا)- أكّد أنّ الذكْر الطيّبَ هو عُمْرٌ آخَرُ للمرء مديدٌ مديدٌ (ألم يقل العرب منذ قرون: "ذِكْرُ الفتى عُمْرُهُ الثاني"؟!). بعطائه الغامر ذكّرَنا أبو الجميل بأنّ الحياة تغدو أمْجَدَ وأجدى بوجود الجود. صادقٌ مُحِقٌّ مَن قال: "مَن لم يُنتفَع بحياته لم يُكترَث لوفاته".
سَـفَـرُ الـذاكـرة
إلى آب كثيرًا ما ترحل بي الذاكرة...
تـوفـيـق، لست أنسى دموعك الخفيّة التي ذرفتَها يوم رحل خالي الغالي، في الثاني والعشرين من آب عام 1984. يومذاك، وكنتَ في السابعة والعشرين وأبًا لولدين اثنين أكبرهما يقارب العام الثالث من عمره، يومذاك ثابتًا صامدًا كنتَ ومتماسكًا أمام الجميع. ربّما بامتناعك عن إظهار كلّ ما فيك من ألمٍ وحزن أردتَ، أنت المسؤول والحريص، أن تُطَمْئِن مَن حولك مِن أحبّاء الراحل الخال الحبيب جـمـيـل أنّك جملٌ للمحامل، كما يتوقّعون ويأملون منك، فلا يعتريهم جزع ولا قلَق.
في ذاك اليوم العصيب، رأيتُك تنتهز لحظةً ما من لحظات المأتم لتتّكئ بيمناك على أحد جدران منزلك وتركن رأسك إليها، بعيدًا عن أنظار المعَـزّين وأهل العزاء، فتُجهش في بكاءٍ مُـرٍّ لم يَدُمْ إلاّ ثوانيَ معدودة، لتعود إثرها إلى مجلس العزاء شامخًا وأشدَّ تماسكًا. ما رآك أحد سواي في تلك الثواني التي خلالها ظننتَ أنتَ أنْ لا أحد منّا يراك.
لم يغب هذا المشهد عنّي حتّى اللحظة. كبيرًا كنتَ دومًا، يا أبا الجـمـيـل. كبيرًا كنتَ منذ صغرك. أحببتَ الناس، أحببتَهم إلى حدّ الامتناع أمامهم عن الشكوى والكشف عن آلامك. لاحقًا، في زياراتنا لك، في المشفى وفي بيتك، كنتَ كاتمًا للألم، راغبًا في دفع القلق عنّا، لكِـنّا كُـنّا في الواقع نزداد قلـَقـًا عليك. أبا الجـمـيـل، يا ليتك أنصفتَ نفسك! اعتنيتَ بكلّ مَن حولك، ولم تعتنِ بنفسك، بصحّتك. لو أنصفتَ نفسك مبكرًا، لَحَظِـينا نحن -أحبّاءك- بأعوامٍ هنيّة بهيّة أخرى بصحبتك الجميلة، يا أبا الجـمـيـل. ليتك، ليتك أنصفتَ نفسك!
أنـتَ وأنـا والإنـاء...
أُمسكُ بالإناء الذي كان مأوًى لأزهارٍ مُنضَّدة وصلتْني منكم أنت والحبيبة الغالية حـنّـة (أمّ جـمـيـل) وسائر الأحبّاء. وصلتْني هديّةً يوم عيد ميلادي، قبل رحيلك بثلاثة أيّام، متوَّجةً بِاسْـمكَ. أُمسكُ بإناء الأزهار ذاك، بعد أن ذَوَتْ مُبهِجاتُه، أنظّفه بالماء والصابون برفق لأحتفظ به، قائلاً إنّ هذا سيبقى لديّ ذكرى من الحبيب تـوفـيـق، فتزجرني نفسي: وهل أنتَ بحاجة إلى ما يذكّرك بأخيك الذي أنجبتْه قبل ثلاثة وخمسين عامًا زوجةُ خالك المكافِحةُ الرائعةُ "أمّ تـوفـيـق"؟!
أخي توفيق، في حكايتنا مع "غيابك"، ليس للنسيان ولا للغياب حضور. الكثير الكثير من أشياء الحياة تُذكِّرنا بك: الأماكن والناس والمناسبات والكلام... الأماكن تذكّرنا بك؛ أماكن الجلوس، أماكن الوقوف والتجوال؛ كروم الزيتون التي عشقتَها. أبناؤك يذكّروننا بك، شكلاً وصوتًا وطِـباعًا وخصالاً؛ في كلّ منهم أشياء منك. بل صدِّق إذ نقول إنّ الحياة هي في حدّ ذاتها تذكّرُنا بك؛ فأنت والحياة كنتما في نظرنا رديفَـيْن، ولا زلتما. كنتَ طافحًا بالحياة، حتّى في أقسى لحظات مرضك. صبْرك على العلل، وإخفاؤك الألم، وكِتمانك الأنين، كلّها كانت حياة وحياة.
مُرّةٌ الحياةُ بدونك، يا أبا جـمـيـل، مُرّةٌ... لكنّ ذكراك الحلوة الطيّبة العذبة العطرة تجعل المُرَّ إلى الحلاوة أقْرَب، ومن النبع أعْذَب، ومن العطر أطْيَب. منذ غبتَ، لم تغب عنّا، ولن تغيب إلاّ في حالات التوهّم. لا غياب إلاّ لمن لم يخدم ولم يترك أثرًا طيّبًا. لا غياب إلاّ لمن كانت حياته بلا معنى ولا جدوى. أمّا أنتَ، يا خرّيج الصفّ الثامن الابتدائيّ، أنتَ يا مذلِّلاً مَصاعبَ قهرتْ سِواك وجعلتهم في ضياع وقنوط ووَهَن، أنت يا مُسانِدًا للأهل ولغير الأهل، أنت يا مَن كنتَ للأخ والأخت أبًا، يا مَن كنت للأمّ والأب أخًا، يا مَن كنت للمستعين عونًا ويدًا، أنت يا سيّدًا خَدَمَ فازداد سُؤْدُدًا... أنت كانت حياتك طِـيـبًا وطِـيبةً وعطـاء. جودًا وُجودُكَ كان، يا كَرْمَ المَكارِم والمَحامِد، يا أبا جميل، يا جمل المحامل، يا حامل المَهامّ، يا متحمّل الهموم.
أمـام شـواهـد الـغـوالـي
            أبا الجميل، هناك على مَدفنكم وُضعَت ثلاثة شواهد رخاميّة.
في ختام الشاهد الرخاميّ الأوّل خاطبْنا أبا توفيق: "لن ننساك أبدًا".
في ختام الشاهد الثاني، خاطبتُ حَماتك (عمّتك سعدى توفيق غبريس الحاجّ -أمّي التي أحبّتك دومًا كحبّها لأبنائها من قبل أن تصبح صهرًا لها):
"وغبـتِ فغابَ عنّا يا حـبيـبَهْ              ورودٌ أودعتْ في الروض طِـيـبَهْ"
وفي ختام الشاهد الثالث، خاطبتُك بِاسْم جميع المُعِزّين والمُحِبّين:
            "ذِكْـراكَ نـارٌ؛ حـرقـةٌ وحريـقُ                       ذِكْـراكَ نـارٌ؛ شعلـةٌ وطريـقُ"
            "جَمَلَ المَحاملِ كنتَ يـا كرْمَ الـندى،                  جُودًا وُجودُكَ كـان يـا توفيـقُ"
ما أردتُ لأحد أن يحسّ حين يقرأ هذا الكلام بأيّ اتّهام أو انتقاص يوجَّه إليه، لكن والله يا أبا الجميل، ندرَ أنْ عرفتُ أحدًا بكرَمك. غامرًا كان كرَمُك واهتمامك، عامرًا كان بيتك (ولا زال، وسيبقى -بلا أدنى ريب). قيل إنّ الكرَم ستّار العيوب. أيّة عيوب؟! أين عيوبك؟! ضئيلةٌ هزيلة عابرة عاديّة مسامَحةٌ، يا كَرْم الكَرَم، يا كرْمًا على درب.
هـزْل وعـمـل
هزلٌ وجِدٌّ: هزْلٌ ودعابة في الكلام، وجِـدٌّ وكَـدٌّ في العمل -أليس هذا ملخَّص ما كان عليه سلوك أبي الجميل في سيرته الوجيزة العريضة؟!
تـمـجـيـدًا لـلـحـيـاة...
= ما أنتَ والرثاء؟! لِمَ صار الكلام عن الرحيل والراحلين حالةً شبه مألوفة لديك؟!
* لا أكتب عن الرحيل والراحلين ابتغاءَ الانتحـاب. لا، لستُ أرثيهم، ولا أرثي لأحوال ذويهم من بعدهم، ولا أرثي نفسي من خلالهم. لا أكتب لأَبكي ولا لأُبكي...
= فإذًا، ما الذي يدفعك؟
* لا يدفعني إلى الكتابة عن الراحلين الأحبّاء سوى أمرين اثنين: الوفاء، والحرص على البقاء. الوفاء لراحلين أوفياء أعزّاء، والحرص على بقاء الأحياء. حين أكتب عن الأعزّاء الراحلين، لا أنسى الأحياء. حين أكتب عنهم، أكتب عن جَمال الحياة وخيرها من خلالهم. حين أكتب عنهم، أعترف بأهمّـيّتهم في حياتي، بل بأهمّيّة وجودهم كلّهم في الحياة. أكتب عمّن نَحسبهم موتى، كي أمجّد الحياة -قديمَها وحاضرَها وقادمَها.
            تـبـاركـت الـحـيـاة...
عـبـلّـيـن
تشرين الثاني – كانون الأوّل 2010


تعليقات        (اضف تعليق)

* الاسم الكامل
البريد الالكتروني
الحماية
* كود الحماية
البلد
هام جدا ادارة الموقع تحتفظ لنفسها الحق لالغاء التعليق او حذف بعض الكلمات منه في حال كانت المشاركة غير اخلاقية ولا تتماشى مع شروط الاستعمال. نرجو منكم الحفاظ على مستوى مشاركة رفيع.
مسؤولية التعقيب تقع على عاتق المعقبين انفسهم فقط
يمنع ادخال اي مضامين فيها اي تجاوز على قانون منع القذف والتشهير او اي قانون آخر
فيديو عبلين |  اخبار عبلين |  دليل عبلين |  عن عبلين |  العاب اونلاين |  للنشر والاعلان |  من نحن |  اتصل بنا | 
Online Users
Copyright © ibillin.com 2007-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع عبلين اون لاين
Developed & Designed by Sigma-Space.com | Hosting by Sigma-Hosting.com