يوم الاربعاء الموافق
17/04/2024
الصفحة الرئيسية اجعلنا صفحة البداية اضفنا للمفضلة





























13/10/2014 - 10:57:24 pm
في رحيل الشاعر سميح القاسم بقلم : د. سمير حاجّ

في رحيل الشاعر سميح القاسم
مزمور فلسطين ..شاعر العوسج والريحان 
                                                                         بقلم : د. سمير حاجّ
" يموت ربّ الأرباب جوبيتر  ويبقى نشيد الشّاعر "
هكذا  كتب  الشّاعر الإيطاليّ جيوزه كاردوشي  Carduccio  Giosue (1835-1907)،الحائز على جائزة نوبل للآداب.
وعلى أهداب خريطة وطن مصلوب  ومشطور كحبة برتقال ، وعالم عربيّ مصدّع ومسفوع بالدخان والبراكين  ،غادر آخر  كبار شعراء الأوذيسة الفلسطينية..غادر  يوليسيز (عوليس)  إيثاكا  فلسطين  قسرا ،على إيقاع  سمفونيته الرائعة ، ولحن  المارسيليز الذي خطّ  كلماته   :
منتصب القامة
أمشي
مرفوع الهامة
أمشي
في كفي
قصفة زيتون،
وعلى كتفي
نعشي
وأنا ...أمشي
قلبي ..قمر أحمر
قلبي..بستان
فيه العوسج ،فيه الريحان
شفتاي ..سماء تمطر
نارا حينا ..حبّا احيان !              - ( الأعمال،ج3، ص248)
غادر  سميح القاسم جغرافية وطنه الصغير ، بعد أن أرسى و ظلّل شعره حيّزا كبيرًا ومضيئًا في خارطة الشّعر العربيّ  عامّة ، وبعد أن ترك منجما شعريا لا ينفذ.
غادر الرّائي سميح القاسم وهو يصرخ بأسى ولوعة :
بعينها الكحيلة
بالشفة البتول
بالوردة الحمراء في الجديلة،
حبيبتي ،
أميرة الفصول
تقاوم المدافع الثقيلة "      -                     ( الأعمال،ج3 ،ص 18-19 ). 
هذه الأيقونة الفلسطينية النادرة  ، تركت وراءها أسفارا شعريّة مضيئة، ومرايا من الألق والإشعاع الثّقافيّ الثّوريّ  ، مجبولة  بالأصالة والإبداع والحداثة.
لم يولد شعر سميح القاسم من " إصبع جوبيتر " ،إنّه هنا ، من النّاس ومع النّاس في الحقل  والمحجر والمصنع والمدرسة والشّارع .. وفي المظاهرات  وفي الصحافة ، لذا جاء منثالا  بلغة دافقة ومباشرة  وواضحة ، ومجبولا بالهمّ والفرح الجماعيّ ، صادقا و نابضا بالحركية والإبداع ، ناضرا وأخضر كزيتون قريته الجليلية الرامة ،وعطرا مثل سوسنات  الكرمل في حيفا ،  ينثر عبقه    في القلب  نعناعًا  ، ويحطّ في الذاكرة ..إنّه عصيّ على النسيان !
رحل الباقي في حيفا والناصرة والرامة ، رحل  كنار الشّعر ،  عاشق أل "هنا " فيزيقيا وتخييليا ، المنزرع   في الوطن مثل الزيتون والصبّار :
لو حزّزوني  مثل ليمونه
تبقين لي ،في الصدر أيقونه
تبقين لي، لو نتفت جسدي
أيد من  الفولاذ ..مأفونه
لو نزّفوا حتى العظام دمي ،
تبقين ..في الأعصاب مخزونه
تبقين لي ،لو فتّتوا بدني
فأصير بعض غبار زيتونه !            -      ( الأعمال ،ج1 ،ص 340 )
شعرسميح القاسم  مسكون ب "هنا"  المكانية .
  أسّس ورفاق  دربه  محمود درويش وتوفيق زياد وسالم جبران وإميل حبيبي الروائيّ ،  وحنّا ابو حنّا –على سبيل الحصر- مرحلة  شعرية جديدة في الالتزام والاستلهام  بالفكر الاشتراكيّ  والتنويريّ ،ارتكزت  على ثلاث أثاف هي  الأرض والهويّة والبقاء ،وعلى رؤية علميّة واقعية تبشّر بالولادة والفرح  والغد  الجميل.
وهناك ،في الأفق القريب  هناك في الأفق البعيد
ليست  تتمّ  الأرض  دورتها  بلا نصر   جديد
فاحمل   لواءك  وامض في      هذا الطريق
........  ...             أبدا على هذا الطريق
شرف السواقي أنّها تفنى ، فدى النهر العميق         -  ( ارم  )

بقي "هنا"  نسرا محلّقا   في الأجواء ،صامدا  كالصبّار والزيتون ،صنع ورفاقه   توفيق
زياد وسالم جبران وإميل حبيبي  وحنّا أبو حنّا  ومحمود درويش -حتى العام 1970- ، من "الاتحاد " و "الغد" و "الجديد"  في حيفا ،مدارس في التثقيف السياسيّ و الحفاظ على الهويّة واللغة والبقاء، واستشراف الغد  النيّر لشعبهم الفلسطينيّ ،رغم النكبات الكاوية والنكسات المتتالية.
سحرته أل "هنا" ،الأثيرة  عنده  ،فنفث فيها عشقا صوفيّا ،وحبّا سرمديّا ،ورأى فيها زوجة وفيّة على غرار بينيلوبPenelope  هوميروس  المنتظرة في إيثاكاIthaca  .  رفض أل "هناك" بكل إغراءاتها ،كما رفض يوليسيز  من قبله ، البقاء مع الحورية كالبسو Calypso  ، في جزيرتها أوجيجيا Ogygia ، حتى وإن وفّرت له الخلود والشّباب.
لم ينس "هناك " ، أهله أبناء شعبه المشرّدين ،الذين لفحتهم نيران النكبة .
يا عدو الشمس !
في الميناء زينات ..وتلويح بشائر
وزغاريد وبهجه
وهتافات وضجه
والأناشيد الحماسية ..وهج في الحناجر !
وعلى الأفق شراع ..
يتحدى الريح ..واللج !
           ويجتاز المخاطر  !
إنّها عودة يوليسيز
      من بحر الضياع ..
عودة الشمس ..وإنساني المهاجر !                    (الأعمال،ج1، ص93 )
هذه الثنائية  "هنا" و "هناك " قسّمت برتقالته  الشعرية إلى شطرين ،ثمّ استشرفت التئام الشطرين .مما شحن  القصيدة بالحركية والفاعلية، لتنبيه المتلقّي ،وزرع الأمل بعد تصوير الألم والوجع ،  الذي يعانيه شعبه في الوطن وفي الشتات .
عمي هنا في حضن بياره
شعبي هنا يتلو وراء الثور والمحراث أشعاره
شعبي هناك ،دمّ على أشواك صبّاره
سل هذه الأشجار أخباره !
حث الخطى يا لولب القطار
حث الخطى، فالشمس، في انتظار !!              (الأعمال، ج1، ص165)
لقد خرج شعر سميح القاسم عن المألوف بتنويعاته وثورته الجريئة في زمن الثابت والجامد ،فهو يتجاوز  ويعبر الحزن بلا خوف ،ويطرح الحل بمنظار واقعيّ علميّ.إنّه ينتفض كالمارد أمام أمته ، الغارقة في سرد قصص  البطولات  والفتوحات القديمة  ،والثرثرة  واجترار الخطابة  ، وعقد المؤتمرات  ،فيدعوها إلى الثورة والتغيير، لأنّه   سئم خطابها التقليديّ  الممتد  من  ألف عام ، إنّه يريد لحنا جديدا ومجدا جديدا ،كما  صرخ في " ثورة مغنّي الربابة " التي تعتبر صوتًا جديدًا ،ومنعطفًا هامًا  في الشّعر الفلسطينيّ.
يا أمّتي  !
ماذا لديك ؟ تكلّمي  ! ما أنت أمّه ؟!
عودي ! فقد تعب اللسان ، ومات قراء الجريده
عودي ! مغنيك القديم ،يود تبديل القصيده
يا أمتي ..قومي امنحي هذه الربابه
غير البراعه في الخطابه
لحنا جديدا ..
وامنحي الأجيال ..أمجادا جديده !!             (الأعمال ،ج1،ص294 )

في شعره شموخ وتحدّ ، مقاومة وتضحيات جسام ، وأنفة  وصمود  أسطوريّ ، إنّه لا يساوم  مهما خسر وضحّى ، بل يقاوم ،فتأتي القصيدة نمرة شرسة تشاكس، وتأبى الترويض والاستسلام.
ربما  أفقد – ما شئت- معاشي  !
ربما أعرض للبيع.. ثيابي وفراشي
ربما أعمل حجّارا ..
           وعتّالا..
         وكنّاس شوارع  1
ربما أخدم ..في سوح المصانع
ربما أبحث– في روث المواشي-
         عن حبوب
ربما أخمد ...عريانا..وجائع !
يا عدوّ الشّمس..لكن..لن أساوم
وإلى آخر نبض في عروقي
           سأقاوم !  ( الأعمال ،مج1 ،ص 31 ).
هذه المزامير الفلسطينية كتبها سميح  القاسم زمن القحط  والجديبة ، في خمسينيات القرن العشرين ، فترة الحكم العسكريّ(1948-1966 ) فترة مطاردة الشيوعيين والوطنيين   ،حين كانت قراءة صحيفة "الاتحاد" الحيفاوية   تشكّل تهمة  أمنية ،وتكلّف صاحبها الاعتقال و السجن 
والطرد من العمل ، وخسران لقمة العيش.وهي تجسّد ما كتب الشاعر الفلسطيني معين بسيسو في مناسبة مشابهة.
أين كانوا
حين كان الشيوعي اسمه الشهيد
والشيوعية اسمها  الشهيدة
نحن الذين حملنا
زمن  القحط
بطاقة الثورة
والحب والقصيدة .

وسميح القاسم من روّاد الشّعر الفلسطينيّ بعد نكبة العام 1948 ،حيث القطيعة الأدبية مع العالم العربيّ . فقد  أصدر ديوانه الأوّل "مواكب الشمس" عام 1958 عن مطبعة الحكيم ،بعد أن كان الشاعر جورج نجيب خليل من قرية عبلين الجليلية  ،قد أصدر ديوان الشعر الفلسطينيّ الأوّل في إسرائيل  " ورد وقتاد " عام 1953.
شعر سميح القاسم  مرايا بلورية لشعبه الفلسطينيّ ،ومسيرته وتاريخه ،وهو  ممسوح بالصوّر  الحزينة ، ذات المشاهد الغريبة ،التي أصبحت عادية ومألوفة في وطنه المصلوب  ، وفي قاموس أبناء شعبه المعذّب ، بعد نكسة حزيران 1967.
رأيت في المداخن
عصفورة جريحه
وطفله كسيحه
تبكي على المآذن !
ومرة...سمعت
مغنيّا مهاجر
يصيح يا ضمائر
أضعت يوم ضعت                     (الأعمال،ج1،ص284 )

وفي قصيدة أخرى يقول :
رأيت رأي العين
مقاتلا في العاشرة
يمشي بلا ساقين
ووجهه للناصرة
وجهه للناصرة

صوره  الشعرية  مركبّة،  تأتي أحيانا متّشحة بالغموض  ومسربلة  بالسوريالية ّ، لتصوير هول الكارثة وشموخ الطفل والعجوز والصبية والشاب   الفلسطينيّ ونضاله العنيد ، ويروّضها الشاعر بقافية مقيّدة تناغما مع مناخها الحزين .وسميح القاسم من الشّعراء الذين لا يعنون بهندسة القصيدة ومعمارها الفنيّ  ،فتأتي قصيدته  صبية جميلة  تسفح أنوثتها الفطرية ، دون رتوش وتبرّج  .وهي  فطرية حارّة ،متناغمة مع الحدث الآني لأنّها بنت الحدث ، تتفاعل سريعًا مع سامعيها في المظاهرات ومع قارئيها في  الصحيفة   ،فتمسّ عقل  وقلب المتلقي  مثل شلال متدفّق في نهر.
والشاعر لرؤيته التفاؤلية وفكره النيّر  والعلميّ  يقفل قصائده بخواتم فرح  وتفاؤل .يتخطّى
 الهزيمة التي لحقت بالعالم العربيّ العام 1967 ،ويرى فيها ميلادًا جديدًا ، وطائر فينيق  يلملم رماده ويبعث من جديد .
يذكر القارئ
أو لا يذكر القارئ،
لكني ،لكي يفهم كل الناس ما قلت ،
أعيد :
نحن،في الخامس ،
من شهر حزيران ،
ولدنا من جديد !                          (الأعمال،ج1،ص388 ).
 
إنّ أبيات القصيدة عند سميح ،على الغالب  قصيرة، ومعظم القصائد عبارة عن ومضات ونيازك ،تشعّ وتختفي فجأة، تاركة المتلقّي غارقا في الصور والمشاهد المؤثرة والمثيرة التي تحملها.وكلمات قصائده تسير بوتيرة سريعة، وكأنّها في سباق ماراتونيّ  مع الضوء والزمن ، تمليها  حركية القصيدة وجوّها  المشحونان بالغضب والتحدّي ، كما في قصيدة  "تقدّموا" ،التي  لا تعرف الاستراحة ، لأنّه يصرخ فيها بغضب وثورة ،  في وجه الجنود الإسرائيليين  :

تقدّموا
تقدّموا
كلّ سماء فوقكم جهنّم
وكلّ أرض تحتكم جهنّم
تقدّموا

ولا بد من الإشارة أن سميح القاسم كتب ملاحم ومطوّلات وفق عروض الشّعر العربيّ ،قلّما نجد مثيلاً لها في الشعر العربي المعاصر، ثيمةً وبناءً .
أحبّ المدن العربيّة ،حملها في أشعاره مدنا مضيئة  بأهلها وشعبها ،رغم عتماتها وغياهبها ،وآلمه حتى النّخاع أن تصبح سدّا وجدارًا يحول دون وصوله إليها ، ودون التقاء الأخ أخاه  .هذا ما كتبه بلوعة وحسرة إلى شطره الآخر محمود درويش ، في " تغريبة"  حين التقاه  في لندن  بعد حصار بيروت  .
لبيروت وجهان
وجه لحيفا
ونحن صديقان
سجنا ومنفى
.........
بدون كلام نمدّ اليدين
ويا ليل يا عين
لا الليل ليل
ولا العين عين
يفرّقنا العالم اليعربيّ
ويجمعنا العالم  الأجنبيّ
ونبقى أجانب في العالمين !       (الأعمال،ج2،ص 684-685)
إنّ شعر سميح القاسم  كوزموبوليتاني  بامتياز ،وكونيّ لأنّه يؤمن بالإنسان في كل مكان  ويرى العالم كلّه وطنا  له.إنّه ما فوق الإقليمية والقومية وكل الفوارق الإثنية . والمثاقفة بارزة في أشعاره ثيمةً وعنونةً، كما أنّه يستحضر شخصيات ثورية وتنويرية من التراث العربيّ ،والفكر العالمي  ويناقشها  ويحاورها  ، مما يكسب القصيدة الانفتاح  والبوليفونية مثل الموسيقى الغربية. 
ويمتاز القاسم ب كاريزما  Charisma  مثيرة في الحضور و الإلقاء الشعريّ ،قلّما تجد مثيلا لها لدى الشّعراء العرب المعاصرين. ف صوته المموسق   والمميّز  يؤثّر في  السّامع ويأسره.
والقاسم ضليع في اللغة والعروض ،وصوته الشّعريّ  المميّز ،وقراءته السليمة أعادت للشّعر جماليته و رونقه وزهوّه ، في زمن الفيس بوك والشبكة  العنكبوتية ، ويؤكّد ذالك الحضور الطاغي في أمسياته وقراءاته الشعرية .
يبقى سميح القاسم صوتًا شعريًا حداثيًا  مميّزا  ، في القرن العشرين ومطلع القرن الواحد
 والعشرين  .  شعره إنسانيّ بامتياز ، يحتفي بالحياة والفرح الغائب المنتظر، ويستحق
 الدراسة  والبحث الجادّ لفكّ  شيفراته ، ومركّبات إكسيره .



تعليقات        (اضف تعليق)

* الاسم الكامل
البريد الالكتروني
الحماية
* كود الحماية
البلد
هام جدا ادارة الموقع تحتفظ لنفسها الحق لالغاء التعليق او حذف بعض الكلمات منه في حال كانت المشاركة غير اخلاقية ولا تتماشى مع شروط الاستعمال. نرجو منكم الحفاظ على مستوى مشاركة رفيع.
مسؤولية التعقيب تقع على عاتق المعقبين انفسهم فقط
يمنع ادخال اي مضامين فيها اي تجاوز على قانون منع القذف والتشهير او اي قانون آخر
فيديو عبلين |  اخبار عبلين |  دليل عبلين |  عن عبلين |  العاب اونلاين |  للنشر والاعلان |  من نحن |  اتصل بنا | 
Online Users
Copyright © ibillin.com 2007-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع عبلين اون لاين
Developed & Designed by Sigma-Space.com | Hosting by Sigma-Hosting.com