لـو عَـرَفـوا...
(عن الدعوة إلى تجنُّد المسيحيّين في الجيش)
حـنّـا نـور الـحـاجّ
"أنا مسيحيّ إسرائيليّ"!
ذاك الفتى لا يرى أنّه عربيّ. هو يعرّف نفسه بأنّه مسيحيّ إسرائيليّ.
مسيحيّته إنتماءٌ دينيّ (دينيّ شكليّ. في حالته، لا يصلح اعتبار ذلك انتماءً إيمانيًّا -إذا صحّ التعبير). إسرائيليّته انتماءُ مواطَنةٍ. أمّا الانتماءان العروبيّ والفلسطينيّ، فلا يذْكرهما. لم يذْكرهما لأنّه لا يعرفهما، لا يحسّهما. لو كان يعرف "رائحة" الانتماء القوميّ والوطنيّ، لَما قال ما قال أمام كاميرا التلفزيون. فلِمَ العجب؟!
صريحًا تكلّم ذاك الفتى. وإذا كنّا مضطرّين من توجيه التحيّة له، نحيّيه لصراحته لا لموقفه!
* * * * *
وذاك الآخَر المشابِه يقول بالعبريّة للمذيع: "أنت تهينني إذا قلتَ عنّي إنّي عربيّ فلسطينيّ"!
يا صديقي المستاء، امتعضْ كما تشاء، واغضب، لكن لا تستغرب! ماذا تتوقّع ممّن يروّج لتجنيد العرب الفلسطينيّين المسيحيّين من مواطني إسرائيل في جيش "الدفاع"؟ هل سيقول إنّه يدعو إلى هذا التجنيد من منطلق عروبيّ قوميّ وطنيّ؟!
هذا التعالي (في "أنت تهينني إذا قلتَ عنّي إنّي عربيّ فلسطينيّ") ليس تَعاليًا! أنت تدرك يقينًا أنّ هذا كرْهٌ للذات. هذا تحدُّر. هذا تنكُّر. هذا تزلُّف. تزلُّف للأكثريّة العنصريّة المتحكّمة. والمتزلّف من أين سيَلقى الاحترام؟! المتنكّر لجذوره له عِبرة في ما حدث ويحدث لمن خدموا في "جيش جنوب لبنان"، ومَن خدموا الاحتلال (بالعمالة مدفوعة الأجر) من أبناء الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة. حين تتبدّل مَصالح المستخـدِم وسياساتُه وتكتيكاتُه، لن يتردّد في أن يُلقي بالمستخـدَم في سلّة المهمَلات إذا استدعت مصلحتُه ذلك. بعد أن تُعصَر الليمونة الوسخة، لا تُحفَظ في المطبخ. الدِّمَن في انتظارها...
* * * * *
تتّسع حدقتاك وأنت ترغي وتزبد اندهاشًا وغضبًا... وما الخَطْب؟ رجل دين مسيحيّ (عربيّ فلسطينيّ!) يروّج ويدعو لتجنيد المسيحيّين في الجيش!
أخي، ذاك رجل دين، لا رجل إيمان. رجل مصلحة شديدة الضيق، لا رجل مبدأ.
أخي، هل تعتقد أنّ رجال الدين فئة واحدة؟!
متنوّعون هم ومتفاوتون... في الإيمان، وفي المواقف، وفي المقدرات والمواهب، وفي المَسالك...
مِنهم مَن يَخدم؛ ومِنهم مَن يَهدم.
مِنهم مَن يُفيد؛ ومِنهم مَن لا يُفيد؛ ومِنهم مَن يضرّ ويؤذي.
مِنهم المنير المستنير؛ ومِنهم المظلم الظلاميّ.
مِنهم مَن يَـهـدي؛ ومِنهم مَن يَـهـذي.
مِنهم مَن يُرشد؛ ومِنهم مَن يُضَلِّل.
مِنهم الرفيع العالي؛ ومِنهم المترفّع المتعالي.
مِنهم مَن يريد لرعيّته أن تعبد المعبود؛ ومِنهم مَن يريد لها أن تعبد العابد.
مِنهم مَن يحرص عليك؛ ومِنهم مَن يضحّي بك.
مِنهم مَن يرغّب الناس في الإيمان؛ ومِنهم مَن يدفع بهم بسلوكه إلى مَهاوي الكفر.
* * * * *
مثلما دعت تعاليم السيّد المسيح إلى التسامح والمحبّة غير المتناهية، دعت كذلك إلى الثورة على الظلْم. السيّد المسيح نفسه كان متمرّدًا. جمْعُه بين التسامح ونزعة التمرّد هو أحد مكوِّنات عظَمته الفائقة. هكذا أرى أنا المسيح. هكذا أحبّ أن أراه. لكن هنالك مَن اختلطت عليه الأمور -في رأيي-، فأساء الفهمَ وأساء إلى المسيحيّة التي يتوهّم أنّه يخدمها بتعصُّبه وانغلاقه وانسلاخه عن شعبه.
يا مَن تَعيبون علينا وطنيّتنا، وتتباهَوْن بما لا يُتباهى به...
"أحِبّوا أعداءكم" لا تعني: اكرهوا شعبكم، وتذيَّلوا لأعدائه!
"بارِكوا لاعِنيكم" لا تعني: اشتموا شعبكم!
"أحسِنوا إلى مبغضيكم" لا تعني: أسيئوا إلى شعبكم!
* * * * *
- مساكين! يظنّون أنّ مستخدِمهم يحترمهم أو سيحترمهم.
** لو عَرَفوا مقدار الاحتقار الذي تُشِيعه تصريحاتهم ومسلكيّاتهم في نفوس مستخدِمهم، لَقتلهم الخجل.
- لا، لن يقتلهم الخجل.
** كيف ذاك؟! لِمَ الاعتراض؟!
- لن يقتلهم هو؛ فهو لا يعرفهم، وهُمْ لا يعرفونه. لو عرفوه، لَما قالوا ما قالوه.
7/1/2014